الخاسرون والرابحون بعد كورونا

تفاجئ العالم برمته بجائحة كورونا التي ضربت الصين في بداية شهر كانون أول من العام الماضي، والتي سُرعان ما انتقلت من دول إلى أخرى، وعلى الرغم من الخسائر الاقتصادية التي أربكت كافة الأسواق العالمية، إلى جانب النزيف المالي في ميزانيات معظم الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.
وعلى الرغم من عدم تخلص العالم من هذا الفايروس حتى وقتنا الحالي، وارتفاع العدد الإجمالي في صفوف المصابين يوميا، وعدم الانتهاء من الإجراءات الوقائية والاحترازية، إلا أن هناك تساؤلاً قد طفى على السطح في الأيام الأولى من إعلان منظمة الصحة العالمية عن أن هذا الفايروس يُعتبر جائحة عالمية.
وهذا السؤال كان يتعلق بماهية الدول التي ستخرج خاسرة على الصعيد الاقتصادي بعد كورونا من جانب؟ ومن هي الدول التي ستخرج بصفة المُنتصر من جانب آخر؟
تحدث الاقتصادي الدولي طلال أبو غزالة عن انهيار اقتصادي مرتقب لدى الجانب الأمريكي، وأنا أشاركه الرأي بشدة، علما أنه قد تنبأ بهذا الأمر منذ عامين وبرر ذلك بمدى هشاشة الاقتصاد الأمريكي، واعتماده على تضخيم الثروات والأصول بنسب هائلة غير حقيقية، ومدى اعتماد أمريكا على سياسات نقدية تقليدية أدت بها مرارا وتكرار للوقوع في نفس الأزمات، أضف إلى ذلك أزمة انهيار مرتقبة لشركات نفطية كُبرى في امريكا وتوقف منصات التنقيب وأخص بالذكر شركات النفط الصخرية، إلى جانب ارتفاع أعداد البطالة.
إن إعلان أمريكا عن خطط التحفيز الأخيرة قد يكون آخر الأوراق التي ترميها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في الأسواق المالية التي تضررت بشكل كبير جدا جرّاء أزمة كورونا، ولكن المختلف في هذه الأزمة هو معطيات الوضع الحالي للدول الإقتصادية العظمى الذي قد تغير عما سبق، وهو ما يفرض صعود قوى اقتصادية أخرى في حالة الانهيار الأمريكي.
الشق الآخر من السؤال الأول يتعلق بالخاسرين الآخرين الذين سيصحبون أمريكا؟
يجب علينا أن نعترف بمدى ارتباط العديد من الدول الأوروبية بالاسواق الأمريكية ارتباطا كبيرا، وتشابه السياسات النقدية لدى البعض منها مع السياسات النقدية الأمريكية مثل فرنسا، وهو ما يجعل منها ضحايا مباشرة لأي انهيار اقتصادي أمريكي، أضيف إلى ذلك الدول الأوروبية ذات الوضع الاقتصادي المتردي مثل إيطاليا واليونان والقلق السياسي الاقتصادي في إسبانيا، أما على صعيد مشكلة النفط فنحن نتحدث عن دول إنتاج نفطية كدول اسكندنافيا وعلى رأسها النرويج والتي يقوم اقتصادها بشكل كبير على النفط، إلى جانب ما سيتسبب الكساد –إن حدث فعلا- من مشاكل مباشرة على الصعيد الانتاجي والصناعي وهو ما سينعكس سلبا على أداء الدول، لا بل لن تسلم دولة اقتصادية صناعية عُظمى مثل ألمانيا من شبح هذا الكساد وذلك بسبب التراجع الملحوظ في نموها الاقتصادي على أساسٍ ربعي ومؤشرات مُقلقة أخرى تحدث في الاقتصاد الألماني لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية؛ مثل ارتفاع اعداد العاطلين عن العمل التي وصلت أعلى من 2 مليون شخص وهو رقم خطير لأنه لا يعكس التأثر بالكورونا حتى الان، إلى جانب مدى تأثير الكساد على الصناعة والانتاج الألماني في غياب الاستثمار الأجنبي آنذاك، وإن كنت ستسألني عن بريطانيا، فلك أن تتخيل أن بريطانيا والاتحاد الاوروبي يتحدثون اليوم عن مستقبل العلاقة وعن جدوى البقاء اقتصاديا بعد الخروج سياسيا في مثل هذه الأوضاع الحرجة (أزمة كورونا) وهو ما يؤكد على هشاشة الموقف الأوروبي في رأي البريطانيين، وعدم وضوح العلاقات الاقتصادية الداخلية رغم ما يقوم به الاتحاد من جهود في الوقت الراهن.
أما السؤال الآخر المطروح فيتعلق بتلك الدول الرابحة بعد انقضاء أزمة كورونا؟
إن التسليم بنجاح دولة وفوزها قد يعتبر أمرا سابقاً لأوانه بعض الشيء، إلا أن الناظر للاقتصاديات الصاعدة، فإنه سيلحظ دولا أربع ، وهي الصين وروسيا والهند وتركيا، وذلك لأسباب مختلفة، وهي على النحو التالي:
كل الدول تقريبا تعتمد في اقتصادياتها على الاستثمار الأجنبي لما له من مزايا مباشرة على حجم الاحتياطي الاجنبي وتمويل النفقات وهذا حال اقتصاد الصين أيضا، ولكن بشكل مختلف؛ حيث جعلت الصين من نفسها جاذبا للاستثمارات الأجنبية نظرا للموارد المُهيأة بشكل فعلي وعملي لهذه الاستثمارات، وبذلك أصبحت الاستثمارات الاجنبية بحاجة للصين وفي بعض الأحيان تكون جدوى هذه الحاجة أكبر بالنسبة للاستثمارات منها للصين ومثال صريح على ذلك شركة أبل وحاجتها للموارد الصينية في التصنيع والأيدي العاملة، بغض النظر عن ما قامت به سامسونغ من خروج من السوق الصيني ولكنها تبقى تجربة فردية كُبرى أمام تجارب استثمارية اجنبية كُبرى كثيرة في الصين، أضف إلى ذلك أن الصين أكبر مستورد للنفط وهو ما يمكنها من شراء النفط بأسعار منخفضة أوقات الكساد واستخدامها في تجهيز وامداد مشاريع ضخمة ستكون فيها آنذاك لبدأ دورة اقتصادية جديدة، والجدير بالذكر أن أكبر خمس بنوك في العالم من حيث الأصول هي في الأصل صينية وتقوم بأداء واجبها تجاه الاقتصاد الصيني منذ سنوات وسنوات، أضف إلى ذلك ايضا أن الصين لا تعتمد على سياسة تخفيض أسعار الفائدة والسياسات النقدية التحفيزية التقليدية بل تعتمد على تشجيع الاستثمار وجعل الشركات المحلية والاجنبية عمادا لأي تغيير بقيود حمائية لاقتصاد الصين،
أما الهند فهي النموذج الاقتصادي النامي بقوة لتقترب شيئا فشيئا من الدخول إلى المراكز الثلاثة الأولى وفق تقدير العديد من الجهات الرسمية، إضافة إلى الاهتمام الأمريكي فيها والذي يمكن اعتباره دليلا وشاهدا على مستقبلها الواعد، أضف إلى الصين والهند الدولة الروسية وعلاقاتها الايجابية الاقتصادية مع هاتين الدولتين، وامتداد العلاقات الاقتصادية الروسية جنبا إلى جنب في العديد من القطاعات الاقتصادية الصينية والهندية، وعلى رأسها تعاون روسيا مع الصين في مشروع طريق الحرير الجديد.
كما يمكن إضافة التجربة التركية إلى الدول السابقة، وهذا يعود لأسباب مختلفة، حيث الإشادة الدولية وتحديدا من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتجربة التركية، خاصة وأن تركيا قد قامت بسداد ديونها للبنك الدولي في عام 2015 والبالغة 35 مليار دولار وإن كنتُ بحاجة اكثر للتأكد من واقع المديونية التركية، كما أن لتركيا تاريخ طويل في التعامل مع الأزمات الاقتصادية والخروج منها مثل ما فعلت أعوام 2002 و 2005 و 2018، إلى جانب ما قامت به تركيا من تحسين لعلاقاتها مع الجانب الروسي والصيني والهندي.
والشق الآخر المتعلق بالسؤ الثاني، يتعلق بواقع المنطقة العربية بعد كورونا.
سأشير بداية إلى اهتمام الصين تحديدا بدول شمال أفريقيا ومنطقة وسط أفريقيا وما توليه بها من تمويل مشاريع تنموية وبنية تحتية مثل الكونغو والنيجر مثل المليارات التي تم ضخها في العام 2014 ، أضف إلى ذلك دعم روسيا لمشاريع اقتصادية في أفريقيا، كما يمكن التمعن بمعدلات النمو الإقتصادية المرتفعة في قارة افريقيا خلال الأعوام القادمة، مقارنة بالأرقام الخجولة في باقي القارات، ويكفي أن نشير إلى أن النمو المتوقع في القارة الإفريقية هو ضعف النمو المتوقع في قارة مثل أمريكا الشمالية، كما يمكن إضافة واقع السوق النفطي العربي والغاز الطبيعي والذي سيكون موجودا لا محالة وليبقى فرصة استثمارية ممتازة للدول القوية الجديدة كما هو الحال الآن مع الدول الاقتصادية العظمى الحالية.

مجدي النوري مُدون وصانع محتوى اقتصادي، عمل في مجال الدراسات في إحدى أهم المؤسسات الاقتصادية في فلسطين، وقام بكتابة العديد من المقالات والأبحاث الاقتصادية، لديه العديد من الشهادات والدورات الاقتصادية لدى العديد من الجهات المحلية والدولية